خلفية المشروع ونطاقه

غالباً ما تركز الأبحاث المتعلقة بالشرق الأوسط على ديناميات دول الخليج الفارسي الغنية بالهيدروكربونات، والصراع العربي الإسرائيلي الطويل، والمعضلات الأمنية المستمرة في كل من مصر والعراق وليبيا ولبنان وسورية بعد أن أُضعِفت. وفي السنوات القليلة الماضية، اجتذبت دولتان غير عربيتين من الشرق الأوسط، وهما تركيا وإيران، اهتماماً متزايداً من الدارسين بسبب موقعهما الجيوستراتيجي، ودورهما في الأحداث التي تشهدها المنطقة. ولم تحوِّل هاتان الدولتان اهتمامنا عن الشرق الأوسط المتمحور حول الشؤون العربية فحسب، بل كشفت عن منظور جغرافي مختلف لدراسة المنطقة، بسبب الحدود المشتركة ومجالات النفوذ التي تمتد من جنوب القوقاز إلى دول الخليج الفارسي.

لا يُستَخدم اصطلاح «غرب آسيا» كثيراً، وقد ظهر أواسط القرن الماضي. وكان من أسباب ظهور هذا الاصطلاح النزعة المضادة للإمبريالية، والتي اعتبرت أن اصطلاح «الشرق الأوسط» وُضِع خلال مرحلة الاستعمار. ويشير اصطلاح «غرب آسيا» عموماً إلى الدول العربية في منطقة الخليج وبلاد الشام، بالإضافة إلى إيران وتركيا ودول جنوب القوقاز، وهي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان. ولا شك أن جمع هذه الدول، التي تبدو للوهلة الأولى شديدة الاختلاف وليس بينها الكثير من العناصر المشتركة، موضع جدل. إلا أن انقسام دول غرب آسيا لم يحدث اعتباطياً، أو لأسباب غير عقلانية، بل تم نتيجةً لعوامل تاريخية وجغرافية وسياسية وثقافية. إذ يجمع بين دول هذه المنطقة إرث تاريخي مشترك، يعود إلى احتكاكها بإمبراطورية روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية، وانتشار الإسلام، وأثر الاستعمار الأوروبي، وتشكل الدول الحديثة ضمن حدود جغرافية معقدة وبتركيبات سكانية متعددة الأعراق.

اتخذت منطقة غرب آسيا شكلها الحالي بفعل مكائد القوى الكبرى السياسية. ولم تنجح الدول الوطنية الحديثة في محو الإرث التاريخي الذي خلفه الفاعلون الخارجيون. فخلال القرن العشرين، كان عدد كبير من الدول، التي تُعتَبر اليوم من غرب آسيا، تحت حكم العثمانيين، الذين حل محلهم البريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى. عبر نظام الانتداب، وحسب اتفاقية سايكس-بيكو، تم تقسيم الأراضي العربية ليخضع بعضها للنفوذ البريطاني، وبعضها الآخر للنفوذ الفرنسي، وفي المحصلة، رحلت القوى الاستعمارية، وحلت محلها دول وطنية حديثة إشكالية. ويصح وصف هذه الدول بالإشكالية لأن القوى الاستعمارية هي التي أنشأت الدول الوطنية العربية «الجديدة»، في حين لم يُسمح لسكان هذه الدول بالمشاركة في رسم حدود دولهم على أسس ثقافية أو عرقية أو سياسية. وأدى تحالف القوى الداخلية إلى أن يكون من وصلوا إلى السلطة في الدول الناشئة حديثاً أبناء قبائل أو عائلات بارزة، أو من أصحاب الخلفية العسكرية في الحقبة الاستعمارية. وكان من آثار هذه التقسيمات الاعتباطية، في فترات لاحقة، نشوء توترات وتهديدات أمنية وتنافسات إقليمية عابرة للحدود.

من جهة أخرى، مثَّل ميلاد الجمهورية التركية العلمانية انفصالاً تامّاً عن الإمبراطورية العثمانية، التي تمحورت سابقاً حول الهويات الدينية. وقد ساهم اضطهاد الأرمن، إلى جانب هروب اليونانيين، في تأسيس دولة تركية متعصبة قومياً، قطعت الصلات التاريخية والاجتماعية مع اليونانيين والأكراد والعرب، واعتمدت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الخارجية للدول العربية. إلا أننا نرى، مع عودة تركيا للتوجه نحو الشرق مؤخراً، أن تركيا تطمح إلى إعادة ترسيخ دورها كلاعب إقليمي أساسي في غرب آسيا. ولا بد من إيلاء اهتمام كبير إلى الصلات القائمة بين أرمينيا وأذربيجان من جهة، والدول العربية وتركيا وإيران من جهة أخرى، من حيث السياسة وموارد الطاقة. وقد رسَّخت التجربة السوفييتية، التي خاضتها دول القوقاز، هويات عدة سابقة للهوية الوطنية، التي قمعتها الهوية السوفييتية المهيمنة، فقد أدى سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الهوية الجامعة إلى ظهور اضطرابات اجتماعية وسياسية واقتصادية كانت مخفية، ولكنها بدأت تظهر على السطح خلال العقدين الماضيين.

وبدأت إيران، بِدَورها، بإيلاء اهتمام أكبر لدول جنوب القوقاز وتركيا خلال العقدين الماضيين. وقد وقف أسلوب الجمهورية الإسلامية في التعامل مع دول جنوب القوقاز كمجال نفوذ محتمل، وسياسات القوة الناعمة التي تتبعها، في وجه حضور تركيا القوي ومتعدد الأبعاد في المنطقة. وشكلت تركيا لإيران جاراً متناقضاً، إذ إنها تكون أحياناً منافساً في التشكيلات الاستراتيجية الإقليمية، وتكون أحياناً أخرى حليفاً أساسياً في وجه التطورات الإقليمية والدولية. وتتسم أذربيجان بالإشكالية أيضاً، بسبب ميل بعض زعمائها إلى الشعبوية العرقية، وبسبب تحالفها الوثيق مع إسرائيل، ما يشرح، جزئياً، التقارب الأقوى لإيران مع جورجيا، التي خاضت صراعاً عسكرياً وحدودياً طويلاً مع أذربيجان.

تُصوَّر منطقة غرب آسيا المعاصرة، عادةً، على أنها منطقة هشة، تعمها الصراعات الطويلة بين دولها، والنزاعات الحدودية الباقية دون تسوية، والاضطرابات التي يتسبب بها حضور هويات عرقية ودينية تُصعِّب مهمة إنشاء دولة وطنية قوية. كما يُنظَر إلى المنطقة على أنها منهكة بأنظمة الحكم الديكتاتورية، وغياب السياسة عن المجتمع، والنمو الاقتصادي البطيء، وتلقي هذه العوامل بظلالها على دول المنطقة. إلا أن المنطقة، حالياً، عادت لتكتسب أهمية استراتيجية بسبب ظروف معقدة تتطور في القوقاز، ولها آثار عالمية. وفي ظل التنافس المتجدد بين روسيا والغرب، والماثل في أوكرانيا، ازدادت فجأة أهمية ثلاثٍ من دول جنوب القوقاز، وهي جورجيا وأذربيجان وأرمينيا، للعديد من الدول الفاعلة، سواء كانت تلك المجاورة منها أم البعيدة. وقد شكلت منطقة جنوب القوقاز، تاريخياً، ساحة للتنافس الدولي، بسبب حدودها مع تركيا، ووقوعها جنوب روسيا وشمال إيران، وتتجدد اليوم أهميتها الجيوستراتيجية في المناخ الذي تفرضه الشؤون الإقليمية والدولية الحالية. علاوة على ذلك، تجتذب المنطقة اهتماماً خارجياً كبيراً بسبب ما تحتويه من مصادر للطاقة وموارد طبيعية، ولا سيما دورها الأساسي في خطوط إمداد أوروبا وغيرها بالغاز، سواء الموجودة منها أم المُدرجة في خطط مستقبلية. ونشأت لتركيا مصالح واسعة في المنطقة تتراوح بين المصالح الأمنية المباشرة، والمصالح المتعلقة بالاقتصاد والطاقة، والمصالح الثقافية والاجتماعية. ولعل تركيا ستستعيد بعضًا من دورها كقوة إقليمية كبرى، في ضوء النزاع الحالي بين أوروبا وروسيا، والجهود الأوروبية والأمريكية المتزايدة لعزل إيران.

ورسّخت أحداث عام 2011، رغم أنها محصورة في قليل من دول الشرق الأوسط، شعوراً بضرورة إشراك فئات الشعب في عملية الحكم لمعالجة المشكلات الناتجة عن سياسات الهوية والتي تهدد الاستقرار الإقليمي والدولي.

 

مجالات البحث:

أطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية، خلال السنة الأكاديمية 2014-2015، وبما يتَّسق مع ما سبق ذكره، مبادرةً بحثية جديدة لتسليط المزيد من الضوء على العلاقات المعقدة والصلات بين دول غرب آسيا من الجوانب الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ونعرض، فيما يلي، بعض الموضوعات التي تستكشفها المبادرات البحثية:

  • القوة والنفوذ في دول جنوب القوقاز: اللعبة الكبرى الجديدة
  • تحول تركيا نحو سياسات القوة الناعمة
  • سياسات خطوط الإمداد ودور تركيا
  • دور إيران في دول جنوب القوقاز
  • دبلوماسية الطاقة في دول جنوب القوقاز
  • دول جنوب القوقاز والعالم العربي
  • الأوليغارشيون والمؤسسات السياسية في دول جنوب القوقاز
  • تركيا ومجلس التعاون لدول الخليج العربية
  • الجرائم العابرة للدول والممارسات غير المشروعة في دول جنوب القوقاز: الآثار على الأمن الوطني والإقليمي
  • ظهور المدارس التبشيرية الإسلامية في القوقاز

كتبت المقال هيا النعيمي وزهرة باربار